إيقاع شبه منتظم راقص…ما انفك حين استمع إليه حتى همَّ بالرقص و اعتدل في جلسته رغمًا عنه و بدأت يدابالتصفيق مع عازفي الفلامنكو. يضربون على أياديهم في تتابع و تداخل، يسرعون تارة و يبطئون تارات. يرتكزون على إيقاع يصدره صندوق من خشب يضرب عليه عازف قد غاص في الحياة حبًا و كرهًا…يضرب عليه رجاءً…يضرب عليه انتقامًا….يضرب عليه أملًا أو غضبًا…يضرب شكوى و رثاءً، حنينًا لأطلال هجرها أو هُجِّر منها فيواسيه عازف القيثارة أو يزيد على غضبه غضب. يشعله بوهج ينبعث من ست أوتار و عشرة أصابع يتراقص بعضها على الأوتار و يضربها البعض أو يشدها كوتر القوس و يفلتها فينطلق اللحن كسهم يعرف هدفه و يصيب قلوب السامعين و يطلق سمه فيجري حاملًا همًا أو فرحًا في عروقهم فيصيبهم بحماسة أو شلل..
لم يشعر بكفيه يتعرقان و يتوهجان حمرة إثر الضرب المتكرر على فخديه. لا يعرف لاستمراره في الضرب شببًا غير أن الموسيقى تفرض عليه ذلك رغمًا عنه، لن يتلقى أجرًا فهو ليس إلا مستمع، لن يتقي شرًا فهو ليس بعبد و ليس الموسيقى بسيد يمسك السوط….ظل مأخوذا بسحر؛ حتى ظهرت…
نعم كان في موضعها من البداية و لكنها كانت صامتة…حتى قالت خيرًا و غنت…أم تراها أنشدت؟ رتلت؟ ناحت؟ صاحت؟ صرخت…أتدرك أنها ضمن فرقة تعزف و عليها الغناء؟ رانت في الأفق تشدو لا تدير لأي مخلوق بالًا…لا يمكن أن يكون كلاما محفوظًا…لن يأتي بهذه السلاسة إن كان يصدر عن شخص آخر أو حتى عنها و لكن في وقت غير ذي الوقت…و ليس ارتجالًا…فليس هناك ارتجالًا يكون بهذا الكمال…كيف يكون ارتجالًا و هو شعر منغوم؟ أنَّا لبشر اختلاق الشعر و تنغيمه في آن واحد؟ زادت أسئلته و حيرته من إيقاع قلبه و شعر بدمه يغلي و حرارته تزيد…حتى ظهر رجلًا نُحِتَت ملامحه من صخر لان…..و غُزل شعره من حرير و كتات زُرعت بذرتهما في طين من ذهب….أمسك رداءه في يد و رفع أختها فوق الرؤوس….ضرب بقدميه الأرض…ضربة فضربة فضربات…طار و حط…دار و سكن…عنف و رزن و تراقص على إيقاع صندوق الخشب و أضابع تضرب على أوتار القلب حتى فرغ….و أتم رسالته و فرغ العازفون و نفذت سمومهم فتوقف العزف و الغناء و الرقص…لكن كانت يداه ما تزال تضرب على فخديه…و قلبه مسموم لن ينال ترياقًا.